فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{كَلَّا إِنَّ كتاب الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)}
قوله: {كَلاَّ} للردع، والزجر عما كانوا عليه، والتكرير للتأكيد، وجملة: {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن يكون {كلا} بمعنى: حقًّا، و{الأبرار}: هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم.
قال الفراء: {عليين} ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له، ووجه هذا أنه منقول من جمع على من العلوّ.
قال الزجاج: هو إعلاء الأمكنة.
قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع؛ لأنه على لفظ الجمع، ولا واحد له من لفظه نحو: ثلاثين، وعشرين، وقنسرين.
قيل: هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه ما عمله الصالحون.
وحكى الواحدي عن المفسرين أنه السماء السابعة.
قال الضحاك، ومجاهد، وقتادة يعني: السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين.
وقال الضحاك: هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها، وقيل هو الجنة، وقال قتادة أيضاً: هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم في الملأ الأعلى، كما يقال فلان في بني فلان أي: في جملتهم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كتاب مرقوم} أي: وما أعلمك يا محمد أيّ شيء عليون على جهة التفخيم والتعظيم لعليين، ثم فسره فقال: {كتاب مرقوم} أي: مسطور، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب مرقوم} [المطففين: 8، 9] وجملة: {يَشْهَدُهُ المقربون} صفة أخرى لـ: {كتاب}، والمعنى: أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم، وقيل: يشهدون بما فيه يوم القيامة.
قال وهب وابن إسحاق: المقرّبون هنا إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل البرّ صعدت الملائكة بالصحيفة، ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها.
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم، فقال: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} أي: إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره {على الأرائك يَنظُرُونَ} الأرائك: الأسرة التي في الحجال، وقد تقدّم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة.
قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير.
ومعنى: {يُنظَرُونَ}: أنهم ينظرون إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات، كذا قال عكرمة، ومجاهد، وغيرهما.
وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار، وقيل: ينظرون إلى وجهه، وجلاله.
{تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور، والحسن، والبياض، والبهجة، والرونق، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك، يقال إنضر النبات: إذا أزهر ونوّر.
قال عطاء: وذلك أن الله زاد في جمالهم، وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف.
قرأ الجمهور {تعرف} بفتح الفوقية، وكسر الراء، ونصب {نضرة}.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، ويعقوب، وشيبة، وطلحة، وابن أبي إسحاق بضم الفوقية، وفتح الراء على البناء للمفعول، ورفع {نضرة} بالنيابة {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} قال أبو عبيدة، والأخفش، والمبرد، والزجاج: الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه، ولا شيء يفسده. والمختوم الذي له ختام.
وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر، وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر.
وقال مجاهد: هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية، ومنه قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

قال مجاهد: {مَّخْتُومٍ}: مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار.
وقال سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي: {ختامه} آخر طعمه.
وهو معنى قوله: {ختامه مسك} أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك.
وقيل: مختوم أوانيه من الأكواب، والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته، وطيب رائحته.
والحاصل أن المختوم، والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه، كما تختم الأشياء بالطين، ونحوه.
قرأ الجمهور: {ختامه} وقرأ على، وعلقمة، وشقيق، والضحاك، وطاووس، والكسائي: {خاتمه} بفتح الخاء، والتاء، وألف بينهما.
قال علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل خاتمه مسكاً: أي: آخره، والخاتم، والختام يتقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، كذا قال الفراء قال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد.
قال الفرزدق:
وبتن بجانبي مصرّعات ** وبت أفضّ أغلاف الختام

{وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي: فليرغب الراغبون، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة، وقيل: إن في بمعنى إلى، أي: وإلى ذلك، فليتبادر المتبادرون في العمل، كما في قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] وأصل التنافس التشاجر على الشيء، والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه، يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة أي: ظننت به، ولم أحبّ أن يصير إليه.
قال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، فيريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره أي: يضن به.
قال عطاء: المعنى: فليستبق المستبقون.
وقال مقاتل بن سليمان: فليتنازع المتنازعون، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} معطوف على {ختامه مسك} صفة أخرى لـ: {رحيق} أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، ومنه تسنيم القبور، ثم بيّن ذلك فقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} وانتصاب {عيناً} على المدح.
وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن تكون {عيناً} حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} وقال الأخفش: إنها منصوبة بـ: {يسقون} أي: يسقون عيناً، أو من عين، وقال الفرّاء: إنها منصوبة بـ: {تسنيم} على أنه مصدر مشتق من السنام، كما في قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ في يوم ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] والأوّل أولى، وبه قال المبرّد.
قيل: والباء في بها زائدة أي: يشربها، أو بمعنى من أي: يشرب منها.
قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش.
قيل: يشرب بها المقرّبون صرفاً، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} وهم كفار قريش، ومن وافقهم على الكفر {كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي: كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ} أي: وإذا مرّ المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم {يَتَغَامَزُونَ} من الغمز، وهو الإشارة بالجفون والحواجب: أي: يغمز بعضهم بعضاً، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم، وقيل: يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به {وَإِذَا انقلبوا} أي: الكفار {إلى أَهْلِهِمْ} من مجالسهم {انقلبوا فاكهين} أي: معجبين بما هم فيه متلذذين به، يتفكهون بذكر المؤمنين، والطعن فيهم، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم.
والانقلاب: الانصراف.
قرأ الجمهور: {فاكهين} وقرأ حفص، وابن القعقاع، والأعرج، والسلمي: {فكهين} بغير ألف.
قال الفرّاء: هما لغتان، مثل طمع وطامع، وحذر وحاذر.
وقد تقدّم بيانه في سورة الدخان أن الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي: إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان {قالواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ} في اتباعهم محمداً، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى: وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأوّل أولى، وجملة: {وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين} في محل نصب على الحال من فاعل قالوا: أي: قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم.
{فاليوم الذين ءامَنُواْ} المراد باليوم: اليوم الآخر {مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} والمعنى: أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، وجملة: {على الأرائك يَنظُرُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل {يضحكون}: أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، وقد تقدّم تفسير {الأرائك} قريباً.
قال الواحدي: قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله، وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم، كما ضحكوا منهم في الدنيا.
وقال أبو صالح: يقال لأهل النار اخرجوا، ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ}.
{هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين، والاستهزاء بهم، والاستفهام للتقرير، و{ثوّب} بمعنى: أثيب، والمعنى: هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين؟ وقيل: الجملة في محل نصب بـ: {ينظرون}، وقيل: هي على إضمار القول: أي: يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوّب الكفار، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويطلق على الخير والشرّ.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله: {إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ} قال: روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء، ففتح لها أبواب السماء، وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش، وتعرج الملائكة، فيخرج لها من تحت العرش رقّ، فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لَفِى عِلّيّينَ} قال: الجنة، وفي قوله: {يَشْهَدُهُ المقربون} قال: أهل السماء.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والطبراني، وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» وأخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله: {نَضْرَةَ النعيم} قال: عين في الجنة يتوضئون منها ويغتسلون، فتجري عليهم نضرة النعيم.
وأخرج عبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} قال: الرحيق الخمر، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر عنه في قوله: {مَّخْتُومٍ} قال: ممزوج {ختامه مسك} قال: طعمه وريحه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {مِن رَّحِيقٍ} قال: خمر، وقوله: {مَّخْتُومٍ} قال: ختم بالمسك.
وأخرج الفريابي، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله: {ختامه مسك} قال: ليس بخاتم يختم به، ولكن خلطه مسك، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن أبي الدرداء {ختامه مسك} قال: هو: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {تَسْنِيمٍ} أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمتقين، ويمزج لأصحاب اليمين.
وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقرّبون صرفاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا مما قال الله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة المطففين:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} أي: هلاك لهم.
قال الأصفهاني: ومن قال: {وَيْلٌ} وادٍ في جهنم فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لهذا، وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه، فقد استحَق مقرا من النار.
ثم بين تعالى المطففين بقوله: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ على النَّاسِ يستوفون} أي: إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافياً وزائداً على إيهام أن بذلك تمام الكيل، وإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقداراً، ففي الوزن بطريق الأوْلى. وإيثار {على} على من للإشارة إلى ما فيه عملهم من المنكر من الاستعلاء والقهر، شأن المتغلب المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدِينه وذمته: {وَإِذَا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون} أي: كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام، ففيهما حذف وإيصال.
قال ابن جرير: من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامَك، بمعنى وزنت لك وكلت لك.
تنبيه:
في (الإكليل): في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن، أي: لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع، ولو في القليل؛ لأن من دَنُؤَت نفسُه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملَكته، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة.
قال ابن جرير: وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر. والمطفِّف: المقلِّل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن. ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطفِّ الصاع، يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان. فقال تعالى في عدة آيات: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9]، وقصَّ تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.
{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيوم عَظِيمٍ يوم يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [4- 6]
ثم قال سبحانه متوعداً لهم: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ} أي: من قبورهم بعد مماتهم.
{لِيوم عَظِيمٍ} أي: عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل ناراً حامية.
{يوم يَقُومُ} أي: لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون في موقف يغشى المجرم فيه من الهول ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأثر الويل لمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه، ووجه ذلك-كما لخصه الشهاب- أن في ذكر الظن من التجهيل مع اسم الإشارة الدال على التبعيد، تحقيراً ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال {يوم يَقُومُ} منه، فإنه يدل على استعظام ما استحقروه.
والحكمة اقتضت أن لا تهمل مثقال ذرة من خير وشر.
وعنوان رب العالمين للمالكية والتربية الدالة على أنه لا يفوتهُ ظالم قويّ، ولا يترك حق مظلوم ضعيف. وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه، وأن من لا يهمل مثل هذا كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟ وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة. فتأمل هذا المقام، ففيه ما تتحيّر فيه الأوهام.
{كَلَّا} ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف اعتقادهم به {إِنَّ كتاب الفُجَّارِ} أي: ما كتب فيه من عملهم السيئ وأحصي عليهم. وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ، وهو الفجور، بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل {لَفِي سجين وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب مرقوم} أي: مسطور بيِّن الكتابة. أو معلّم برقم ينبئ عن قبحه. سمي سجيناً- فعِّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق- لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو بمعنى فاعل في الأصل؛ أو لأنه مطروح في أسفل مكان مظلم، فهو بمعنى مفعول، كأنه مسجون لما ذكر.
وقيل: هو اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده، والتقدير: ما كتاب سجين أو محل {كتاب مرقوم}؟ فحذف المضاف، وقيل: إنه مشترك بين المكان والكتاب.
وقال الأصفهاني: السجين اسم لجهنم بإزاء عِلِّيِّين. وزيد لفظُه تنبيهاً على زيادة معناهُ.
وقيل: هو اسم للأرض السابعة.
ثم قال: وقد قيل: إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} فسّرهُ، وكل ما ذكره بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} تركه مبهماً، وفي هذا الموضع ذكر: {وَمَا أَدْرَاكَ} وكذا في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ثم فسّر الكتاب، لا السجين والعليون. وفي هذه الطبقة موضعها الكتب التي يتبع هذا الكتاب، لا هذا. انتهى.
وقال القاشانيّ: {لَفِي سجين} في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخسَّاء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها، وهو ديوان أعمال أهل الشرّ؛ ولذلك فسّر بقوله: {كتاب مرقوم} أي: ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم {وَيْلٌ يومئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيوم الدِّينِ} أي: بيوم الحساب والمجازاة، وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف؛ لأن إصرارهم على التعدي والاجترام يدل على عدم الظن بالبعث، كما قال تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ} أي: مجاوز طور الفطرة الْإِنْسَاْنية بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط في أفعاله بالبغي والعدوان {أَثِيمٍ} أي: مبالِغ في ارتكاب أفانين الإثم وأنواع المعاصي.
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قال أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: ما سطروهُ من الأحاديث والأخبار، يريد أنه ليس بوحي ربانيّ، ولا تنزيل إلهيّ، مع نصوع بيانه وشواهد برهانه.
{كَلَّا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [14]
{كَلَّا} أي: ليست هذه الآيات بأساطير الأولين، بل هي الحق المبين والشفاء لما في الصدور {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: غطى على مداركهم ما اكتسبوهُ من الآثام حتى كدّر جوهرها وصار صدأ عليها بالرسوخ فيها. والرين أصل معناه الصدأ والوسخ القارّ، شبه به حب المعاصي الراسخ في النفس، وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكةٌ راسخة لا تقبل الزوال، وصفة للنفس قارّة فيها؛ فبكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدأ الذي لا يزول بسهولة.
قال في (الأساس): الران ما غطى القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب، من قولهم: ران عليه الشراب والنُّعاس، و: ران به، إذا غلب على عقله، و: رينَ بفلان، ونظيره الغين.
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [15].
{كَلَّا} ردع لهم عن الكسب الرائن على قلوبهم، أو بمعنى حقًّا {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} قال ابن جرير: أي: فلا يرونه ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم، فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيراه الله تعالى ويرى كرامته.
قال الشهاب: لما كان الحجاب هو الساتر من ستارة بزّ وغيرها، استعير تارة لعدم الرؤية؛ لأن المحجوب لا يرى ما حجب، وتارة للإهانة؛ لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء؛ لذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب، أي: معظم ومهان. وهو بمعانيه محال أن يتصف الله، فلا يصح إطلاقه عليه تعالى، كما صرحوا به، وإنما يوصف به الخلق، كما في هذه الآية. فإذا أجري على اسم من أسمائه تعالى، فهو وصف سببيّ لا حقيقيّ. بل التشبيه للخلق.
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم} أي: محترقون بها. وقد أشار القاشانيّ إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدأ على قلوبهم بالرسوخ فيها، كدِّر جوهرها وغيَّرها عن طباعها، فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} لامتناع قبول قلوبهم للنور، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطريّ، كالماء الكبريتي مثلاً؛ إذ لو روّق أو صعّد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة، لاستحالة جوهرها، بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب. وحكم عليهم بقوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم} انتهى.
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) في هذه الآية ما مثاله: جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم نظير ما تفعله النار في أجسامهم، كحال من حِيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا، وأخذ بأشد العذاب، فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه، وهي ممنوعة من الوصول إليه، فكيف إن حصل لها- مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه- بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة، منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة، كما قال:
وكنتُ أرَى كالموت من بَين ليلةٍ ** فكيف بَبَيْنٍ كَان ميعادَهُ الحشرُ

وإنما يتبينَ الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلقَ العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للنطق، واليد للبطش، والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذِكره، وجعل هذا كمالها وغايتها، فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة، بل ألمها أشد الألم، وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه، وفي حديث الرؤية: «فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى وجهه».
ثم قال: وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمُحبيه بين نوعي النعيم: نعيم القرب والنظر، ونعيم الأكل والشرب، والنكاح والتمتع بما في الجنة، في قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الْإِنْسَاْن: 11] الآيات.
{ثُمَّ يُقال هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا.
قال الإمام: تبكيتاً لهم وزيادة في التنكيل بهم، فإن أشد شيء على الْإِنْسَاْن، إذا أصابه مكروه أن يذكر وهو يتألم له: بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التقصي عنه كانت في مكنته فأغفلها.
{كَلَّا إِنَّ كتاب الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كتاب مرقوم يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [18- 21]
{كَلَّا} ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقًّا {إِنَّ كتاب الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} قال القاشانيّ: أي: ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين، وهو مقابل للسجين، في علوه وارتفاع درجته، وكونه ديوان أعمال أهل الخير.
كما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كتاب مرقوم} أي: محل شريف رقم بصور أعمالهم:
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي: يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال، كما في آية {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55].
والمقربون هم الأبرار: أعاد ذكرهم بوصف ثانٍ؛ تنويهاً بهم وتعديداً لصفاتهم. أو هم الملائكة إجلالاً لهم وتعظيماً لشأنهم.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ على الْأَرَائِكِ ينظرون تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ختامه مسك وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [22- 26]
ولما عظم تعالى كتابهم تأثره بتعظيم منزلتهم، بقوله سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي: عظيم دائم، وذلك نعيمهم في الجنان.
{على الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي: على الأسِرة والمتكآت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي: بهجته ورونقه، كما يُرى على وجوه المترفهين ماؤه وحُسنه.
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} أي: خمر، إلا أنه خص بالخالص الذي لا غش فيه، كما قال حسان:
يسْقُون منْ وَردَ البَريص عليهمُ ** بَردَى يُصَفَّقَ بالرحيق السَّلْسَلِ

ومنه قولهم: مسك رحيق لا غش فيه، وحسب رحيق لا شوب فيه.
وقوله تعالى: {مَّخْتُومٍ} أي: ختم على أوانيه تكريماً له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان.
{ختامه مسك} قال القفال: أي: الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق هو المسك، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم.
وعن بعض السلف واللغويين: المختوم الذي له ختام، أي: عاقبة، وقد فسرت بالمسك، أي: من شربه كان ختم شربه على ريح المسك. والقصد لذة المقطع بذكاء الرائحة وأرَجها، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة {وَفِي ذَلِكَ} أي: النعيم المنوه به وما تلاهُ {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أي: فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى:
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونَه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه، وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم.
وقال الرازيّ: إن مبالغتهُ تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه. وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء. وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [27- 28]
{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} عطف على {ختامه} صفة أخرى لـ: {رَّحِيقٍ} وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أي: ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. والتسنيم في الأصل مصدر سنَمه بمعنى رفعهُ، ومنه السنام. سمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علوّ.
وقد بينهُ بقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي: يشربون بها الرحيق، والكلام في الباء، كما في آية {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الْإِنْسَاْن: 6]، من كونها زائدة، أو بمعنى: من، أو صلة الامتزاج، أو الالتذاذ.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقلبوا فكهين} [29- 31]
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} يعني كفار قريش {كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} أي: استهزاءً بهم لإيمانهم بالله وحده وبما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه، ونبذهم ما ألْفَوْا عليه آباءهم.
قال الإمام: الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شَريَتْ نفوسهم في الشر، وصَمّتْ آذانهم عن سماع دعوة الحق: هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا؛ ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالَم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدَّهماء وفي ضلال العامة، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام، ثم يهمس بها بعض من يليه، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فَيُسِرُّ بها إلى من يرجوه، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً، كذلك كان شأن جماعة من قريش، كأبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بينَ طرق الباطل، وجهل معنى الدِّين، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تشايعها السرائر، وتحكَّمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب، وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، واستوى في ذلك الكبير والصغير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم. إذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعُف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه، وانطبق عليهم نصُّ الآية الكريمة. انتهى.
{وَإِذَا مَرُّواْ} أي: الذين آمنوا {بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي: يغمز بعضهم بعضاً استهزاءً وسخريةً. والغمز: الإشارة بالجفن والحاجب.
قال السيوطيّ: وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين، والضحك منهم، والتغامز عليهم {وَإِذَا انقلبوا} أي: هؤلاء المجرمون من مجالسهم {إِلَى أَهْلِهِمُ انقلبوا فكهين} أي: متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان، أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي: رأوا المؤمنين {قالوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} أي: لتركهم ما عليه العامة، والاعتصام بغيره. وقوله تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا} أي: هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر {عَلَيْهِمْ} أي: على المسلمين {حَافِظِينَ} أي: لأعمالهم. جملة حالية من: واو {قالوا} أي: قالوا ذلك، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم. وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترؤوا عليه من القول، من وظائف من أرسل من جهته تعالى.
وقد جوِّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين، كأنهم قالوا: إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين. إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وإنما قيل: {عَلَيْهِمْ} نقلاً له بالمعنى كما في قولك: حلف ليفعلنّ، لا بالعبارة، كما في قولك: حلف لأفعلنّ، أفاده أبو السعود.
{فَالْيوم الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} تفريع على ما قبله، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم في الدنيا، واليوم: يوم الدين والجزاء. وضحكهم من الكفار ضحك السرور بما نزل بعدوّه من الهوان والصغار، بعد العزة والكبر.
{على الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إلى ما أوتوا من النعيم، وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم.
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا.
والجملة متعلقة بـ: {يَنظُرُونَ} في محل نصب بعد إسقاط الجار، أو مستأنفة. والاستفهام للتقرير كأنه خطاب للمؤمنين، تعظيماً لهم وتكريماً وزيادة في مسرتهم، أي: هل رأيتم كيف جازى الله الكافرين بأعمالهم، أي: أنه فعل. وما مصدرية أو موصولة. وثوّبهُ وأثابه بمعنى جازاهُ، وهو من ثاب، بمعنى رجع. فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقولونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيوم بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 108- 111]. اهـ.